الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرسالة **
*2* قال الله - تبارك وتعالى -: فأنزل الله ميراثَ الوالِدَيْن ومن ورث بعدَهما ومَعَهما من الأقْرَبِين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها. فكانت الآيتان محتملتين لأن تُثْبِتا الوصيةَ للوالدَيْن والأقربين، والوصيَّةَ للزوج، والميراثَ مع الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا، ومحتملةً بأن تكون المواريث ناسخةً للوَصَايَا. فلَمَّا احتملتْ الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طَلَبُ الدِّلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصاً في كتاب الله، طَلَبُوه في سنة رسول الله، فإن وَجَدوه فما قَبِلُوا عن رسول الله، فَعَنْ اللهِ قَبِلُوهُ، بما افْتَرَضَ مِن طاعته. ووَجدْنا أهلَ الفُتْيَا، ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم بالمَغَازِي، مِنْ قُريش وغيرهمْ: لا يختلفون في أنَّ النبي قال عامَ الفَتْحِ: (لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ)، ويَأْثُرُونه عَنْ مَنْ حَفظوا عنه مِمَّنْ لَقُوا من أهل العلم بالمغازي. فكان هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّة، وكان أقوى في بعض الأمْرِ من نقْلِ واحد عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين. قال: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه: أنَّ بعضَ رِجاله مجهولون، فَرَوَيْناه عن النبي منقطِعًا. وإنما قَبِلْنَاه بما وَصَفْتُ من نقْل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإن كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديثِ أهل المغازي عامًّا وإجماع الناس. أخْبَرنا "سفيان" عن "سليمان الأحْوَل" عن "مجاهد"، أنَّ رسولَ الله قال: ( لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) [ الترمذي: كتاب الوصايا/2046؛ النسائي: كتاب الوصايا/3581؛ أبو داود: كتاب الوصايا/2486؛ ابن ماجه: كتاب الوصايا/2704. وفي القُرَآن ناسخٌ ومنسوخٌ غيرُ هذا، مُفَرَّقٌ في مَواضِعِهِ، في كتاب (أحكام القُرَآن) . وإنما وصفتُ مِنه جُمَلًا يُسْتدل بها على ما كان في معناها، ورأيت أنها كافِيَةٌ في الأصل مِمَّا سَكَتُّ عنه، وأسْألُ اللهَ العِصْمةَ والتوْفيقَ. وأتْبَعْتُ ما كتبتُ منها علمَ الفرائض التي أَنْزلها الله مُفَسَّرَاتٍ وجُمَلًا، وسُنَنَ رسول الله معها وفيها لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِم هذا مِن علم (الكتاب)، الموضعَ الذي وَضَعَ الله به نَبِيَّه مِن كتابِه ودينِه وأهلِ دينِه. ويَعْلمون أن اتِّباعَ أمْره طاعةُ الله، وأنَّ سُنَّتَه تَبَعٌ لكتاب الله فيما أنْزَلَ، وأنها لا تخالف كتاب الله أبداً. ويَعْلَمُ مَنْ فَهِمَ (هذا الكتاب) أنَّ البيان يكون من وجوه، لا مِن وَجْهٍ واحد، يَجْمَعُها أنها عند أهل العلم بَيِّنَةٌ ومُشْتَبِهَةُ البَيَانِ، وعند مَن يُقَصِّرُ عِلْمُه مُخْتلفة البَيَانِ]. فاستدللنا بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن النبي أن: ( لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)، على أنَّ المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي، وإجماعِ العامَّة على القول به. وكذلك قال أكثرُ العامَّة: إن الوصية للأقربين منسوخة زائلٌ فَرْضُها، إذا كانوا وارثين فبالميراث، وإن كانوا غَيْرَ وارثين فليس بِفَرض أنْ يُوصي لهم. إلاَّ أنَّ طاوسًا وقليلاً معه قالوا: نُسِخت الوصية للوالدين، وَثَبَتَتْ للقرابة غير الوارثين، فَمَنْ أوْصَى لغير قرابة لم يَجُزْ. فلَمَّا احتملت الآية ما ذهب إليه "طاوس"، مِن أنَّ الوصيَّة للقرابة ثابتة، إذْ لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلاَّ أنَّ النبي قال: ( لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)، وَجَبَ عِندنا على أهل العلم طلبُ الدِّلالة على خِلاف ما قال "طاوس" أو مُوَافَقَتِه: فوجدنا رسول الله حَكَمَ في سِتَّةِ مَمْلُوكِينَ كانوا لرجل لا مالَ له غيرُهم، فَأَعْتَقَهُم عند الموت، فَجَزَّأَهُم النبيُّ ثلاثةَ أجزاء، فَأَعْتَقَ اثنين، وَأَرَقَّ أربعةً. أخْبَرَنا بذلك "عبد الوهاب" عن "أيوب" عن "أبي قِلابَة" عن "أبي المُهَلَّبِ" عن "عِمران بن حُصَينٍ" عن النبي. قال: فكانت دِلالة السنة في حديث "عِمران بن حُصَيْنٍ" بَيِّنَةً بأن رسول الله أَنْزَلَ عِتْقَهم في المرض وصيَّةً. والذي أعْتَقَهُمْ رجل من العَرَب، والعربيُّ إنَّما يَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِن العَجَم،ِ فأجازَ النبي لهم الوصيةَ. فدلَّ ذلك على أن الوصية لو كانت تَبْطُلُ لِغير قرابة: بَطَلَتْ لِلْعبيد المُعْتَقين، لِأنَّهم ليسوا بِقَرَابة للمُعْتِق. ودلَّ ذلك على أنْ لا وصيةَ لِمَيِّت إلا في ثُلُثِ ماله، ودل ذلك على أنْ يُرَدَّ ما جَاوَزَ الثلثَ في الوصية، وعَلَى إبْطال الاستسعاء، وإثْبَات القَسْمِ والقُرْعَة. وبَطَلَتْ وصية الوالدين، لأنهما وارِثان، وثَبَتَ مِيراثُهما. ومَن أوْصَى له المَيِّتُ مِن قَرَابةٍ وغيرِهِم، جَازَتْ الوصيةُ، إذا لم يكن وارِثاً. وأحَبُّ إليَّ لوْ أوْصى لِقَرابَته. *2* قال الله - جل ثناؤه -: { قال "الشافعي": فالمُحْصنَات هاهنا البَوَالِغ الحرائر. وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة. وقال: { وفي هذا الدليلُ على ما وصفتُ، مِن أنَّ القُرَآن عَرَبي، يكون منه ظاهِرُه عامًّا، وهو يراد به الخاص، لا أنَّ واحِدَة من الآيتين نَسَخَتْ الأُخْرى، ولكن كلُّ واحدة منهما على ما حَكَمَ اللهُ به، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهما حيث فَرَقَ اللهُ، ويُجْمَعان حَيْث جَمَعَ اللهُ. فإذا الْتَعَنَ الزوجُ خرج من الحد، كما يَخرج الأَجْنَبِيُّون بالشُّهود، وإذا لم يَلتعنْ - وزوجتُه حُرةٌ بالغة - حُدَّ. قال: وفي "العَجْلَانِيِّ" وزوجتِهِ أُنزلت آيةُ اللَّعان، ولاَعَنَ النبيُّ بَيْنَهما، فَحَكَى اللعانَ بَيْنهما "سهل بن سعد الساعِدي، وحَكاه ابن عباس، وحَكَى ابن عمر حضورَ لِعانٍ عندَ النبيِّ، فَمَا حَكَى مِنهم واحد كيفَ لَفْظُ النبيِّ في أمْرِهما باللِّعانِ. وقد حَكَوْا معًا أحكاماً لرسول الله ليست نصًّا في القُرَآن، منها: تَفْريقه بَيْن المُتَلاعِنين، ونَفْيُه الولدَ، وقولُه: ( إنْ جَاءَتْ بِهِ هَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ) فَجاَءَتْ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَالَ: إنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلاَ مَا حَكَى اللهُ)، وحكى ابن عباس أنَّ النبي قال عند الخامسة: ( قَفُوهُ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ) [ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4378؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3103؛النسائي: كتاب الطلاق/3415؛ أبو داود: كتاب الطلاق/ 1923] فاستَدْلَلْنا على أنهم لا يَحْكُونَ بَعضَ ما يُحتاج إليه مِن الحديث، ويَدَعُون بعضَ ما يُحتاج إليه مِنه، وأَوْلاَهُ أنْ يُحْكَى مِن ذلك، كيْفَ لاَعَنَ النبيُّ بَيْنهما: إلاَّ عِلماً بأنَّ أحَداً قَرَأ كتابَ الله،يَعْلم أنَّ رسولَ الله إنَّمَا لاَعَنَ كما أَنْزل اللهُ. فَاكْتَفَوْا بإبانَةِ اللهِ اللعانَ بالعَدَد والشهادةِ لكلَّ واحدٍ مِنهما، دون حِكايةِ لفظِ رسول الله حِينَ لاَعَنَ بَيْنَهما. قال الشافعي: في كتاب الله غايةُ الكِفَايَة عَن اللعانِ وعدَدِهِ. ثم حَكَى بعضُهم عَن النبيِّ في الفُرْقَة بَيْنهما كما وَصَفْتُ. وقد وصفْنا سننَ رسولِ الله مَعَ كتابِ اللهِ قَبْلَ هذا. قال الله: { ثم بَيَّن أيَّ شهر هو، فقال: قال الشافعي: فما علمتُ أحداً مِن أهل العلم بالحديث قَبْلنا تكلَّفَ أنْ يرْوِيَ عن النبي أنَّ الشهر المفروض صومه شهرُ رمضان الذي بَيْن شعبان وشوالٍ، لمعرفتهم بشهر رمضان مِن الشهور واكتفاءً منهم بأن الله فَرَضَهُ. وقد تَكَلَّفوا حفظَ صومه في السفر وفطرِه، وتكلَّفوا كيف قَضَاؤه، وما أشبهَ هذا، مما ليس فيه نص كتاب. ولا علمْتُ أحداً من غير أهل العلم احْتَاجَ في المسألة عن شهر رمضان: أيُّ شهرٍ هو؟ ولا: هل هو واجب أم لا؟ وهكذا ما أنزل الله من جُمَل فَرَائضه، في أنَّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا على مَنْ أطاقه، وتحريِمِ الزنا والقتل وما أشْبَهَ هذا. قال: وقد كانت لرسول الله في هذا سُنَنًا [ هكذا ضُبط بالنصب ومضى نحو هذا ص 103 و 117 وسيأتي ص 174 وهذا يجعل تخطئته مجازفة كبيرة. قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على ص 174 ((والذي يبدو لي أن تكون هناك لغة غريبة لم تنقل إلينا... والظاهر أنه بنصب معمولي كان)) وهو ما أميل إليه.] ليست نصًّا في القُرَآن، أبان رسولُ الله عَنْ الله معنى ما أراد بها، وتكلَّم المسلمون في أشياءَ مِن فُروعها، لمْ يَسُنَّ رسولُ الله فيها سُنَّة مَنْصوصةً. فمِنها: قولُ الله: فاحتمل قولُ الله: واحتمل: حتى يُصِيبها زوجٌ غيرُه لأن اسْم (النكاح) يَقَعُ بالإصابة، ويقع بالعقد. فلَمَّا قال رسولُ الله لامْرأة طلَّقَها زوجُها ثَلَاثًا ونَكَحَها بَعْدَه رجلٌ: (لاَ تَحِلِّينَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ)، يعني: يُصيبك زوج غيره؛ والإصابة: النكاح. فإن قال قائل: فاذْكر الخبَرَ عَنْ رسولِ الله بما ذكرْتَ. قيل: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: ( أنَّ امْرَأةَ رِفَاعَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ[ شَبَّهتْ ذَكَرَه - في الاسترخاء وعدم الانتشار عند الإفضاء -،بهدبة الثوب.[المصباح المنير - الفيومي]. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) [ البخاري: كتاب الشهادات/2445؛ مسلم: كتاب النكاح/2587؛ النسائي: كتاب الطلاق/3356؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1965؛ الترمذي: كتاب النكاح/1037؛ ابن ماجه: كتاب النكاح/1922..] قال الشافعي: فَبَيَّن رسولُ الله، أنَّ إحلالَ الله إيَّاها للزوج المُطَلِّقِ ثلاثاً بَعْدَ زَوْجٍ بالنكاح: إذا كانَ مَع النِّكاحِ إصابَةٌ مِن الزوج *2* قال الله - تبارك وتعالى -: { وقال: فأبان أنَّ طهارَةَ الجُنُب الغُسْلُ دُون الوُضوء. وسَنَّ رسولُ الله الوضوءَ كما أَنْزَلَ اللهُ: فَغَسَلَ وَجْهه ويَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن، ومسح بِرَأسه، وغسَلَ رِجْليه إلى الكَعْبَيْن. أخْبَرَنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسْلَمَ عن عطاء بن يَسَارٍ عن ابن عباس عن النبي: (أنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً)[ الترمذي: كتاب الطهارة/40؛ النسائي: كتاب الطهارة/79؛ أبو داود: كتاب الطهارة/119؛ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/404؛أحمد: مسند العشرة المبشرين/144] أخْبَرنا مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيى: (هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاه، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ)[ النسائي: كتاب الطهارة/96؛ أبو داود: كتاب الطهارة/103؛ ابن ماجه: كتاب الطهارة و سننها/428؛ أحمد: مسند المدنيين/15836؛ مالك: كتاب الطهارة/29] فَكان ظاهِرُ قولِ الله: ( فسَنَّ رسولُ الله الوُضوءَ مَرَّةً، فَوافَقَ ذلك ظاهرَ القُرَآن، وذلك أقلُّ ما يَقع عليه اسمُ الغَسْل، واحتمل أكثر، وسنَّهُ مَرَّتَيْن وثلاثاً. فلمَّا سنَّهُ مرة استدللنا على أنَّه لوْ كانتْ مرَّةٌ لا تُجْزِئ: لم يتوضأْ مرةً ويُصَلي، وأنَّ ما جاوَزَ مرةً اخْتِيَارٌ، لا فرضٌ في الوضوء لا يجزئ أقلُّ مِنْه. وهذا مثلُ ما ذكرتُ مِن الفرائض قَبْله: لو تُرِك الحديث فيه اسْتُغْنِيَ فيه بالكتاب، وحين حُكِيَ الحديثُ فيه دلَّ على اتباعِ الحديث كتابَ الله. ولعلَّهم إنما حَكَوُا الحديثَ فيه لأنَّ أكثرَ ما تَوَضَّأَ رسولُ الله ثلاثاً، فأرادوا أن الوضوءَ ثلاثاً اختيارٌ، لا أنه واجبٌ لا يجزئُ أقلُّ منه، ولما ذُكِرَ منه في أنَّ (مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءَه هَذَا - وَكَانَ ثَلاَثاً - ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ) [ البخاري: كتاب الوضوء/155؛ مسلم: كتاب الطهارة/332؛ النسائي: كناب الطهارة/83؛ أبو داود: كتاب الطهارة.] وسن رسول الله في الغسل من الجَنابَةِ غُسْلَ الفَرْج والوُضوءَ كوُضوءِ الصلاةِ ثم الغُسْلَ، فكذلك أحْبَبْنَا أنْ نَفْعلَ. ولم أعلم مُخَالفًا حفظْتُ عنه مِن أهل العلم في أنَّه كيْف ما جاء بِغُسْلٍ وأتَى على الإسْباغ: أجْزَأهُ، وإنْ اختاروا غيْرَه، لأن الفرضَ الغُسْلُ فيه، ولم يُحَدَّدْ تحديدَ الوُضوءِ. وسنَّ رسولُ الله فيما يَجِبُ منه الوضوءُ، وما الجنابةُ التي يَجِبُ بها الغُسْلُ، إذْ لم يكنْ بعضُ ذلك منصوصاً في الكتاب ؛ فأرادوا طَلَبَ الفَضْل في الزيادة في الوضوء، وكانتْ الزيادةُ فيه نافِلَةً. وغَسَلَ رَسُولُ الله في الوضوء المِرْفَقَيْنِ والكَعْبَين، وكانت الآية محتملةً أن يكونا مَغْسولين وأن يَكُونَ مغْسولاً إليهما، ولا يكونان مغسولَيْن، ولعلهم حَكَوا الحديثَ إبانَةً لهذا أيضاً. وأشْبَهُ الأمريْن بظاهر الآية أن يكونا مغسولَيْن. وهذا بيانُ السُّنَّة مع بَيانِ القُرَآن. وسَوَاءٌ البيانُ في هذا وفيما قَبْله، ومُسْتَغْنىً بِفرْضه بالقُرَآن عند أهْل العلْم، ومُخْتلِفان عند غيْرِهم. *2* قال الله - تبارك وتعالى -: وقال: { فدلَّتْ السنة على أن الله إنما أراد مِمَّنْ سمَّى له المواريثَ، من الإخوة والأخواتِ، والولد والأقارب، والوالدَيْنِ والأزواج، وجَمِيع مَنْ سمَّى له فريضةً في كتابه، خاصَّا مِمَنْ سمى. وذلك أن يجتمع دينُ الوارثِ والمَوْروث، فلا يختلفان، ويكونان مِن أهْل دار المسلمين، ومن له عَقْدٌ من المسلمين يَأْمَنُ به على ماله ودَمِه، أو يكونان من المُشْركين، فيَتَوَارَثان بالشِّرْك. أخْبَرَنا سفيان عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان بن أسامة بن زيد، أنَّ رسولَ الله قال: (لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ)[ البخاري: كتاب الفرائض/6267؛ مسلم: كتاب الفرائض/3027؛ الترمذي/2033؛ أبو داود: كتاب الفرائض/2521؛ ابن ماجه: كتاب الفرائض/2719] وأن يكون الوارِثُ والمَوْرُوثُ حُرَّيْنِ مع الإسلام أخبرنا ابن عُيَيْنَة عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه، أنَّ رسولَ الله قال: ( مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالُ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ) [مسلم: كتاب البيوع/2854؛ الترمذي: كتاب البيوع/1165؛ النسائي: كتاب البيوع/4557؛ أبو داود: كتاب البيوع/2977؛ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة/4324؛ مالك: كتاب البيوع/1119] قال: فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله أنَّ العبدَ لا يَمْلِكُ مالاً، وأن مَا مَلَكَ العبدُ فإنما يَمْلِكُهُ لِسَيِّدِهِ، وأن اسمَ المالِ له إنما هو إضافةُ إليه، لأنه في يَدَيْهِ، لاَ أنَّهُ مالكُ لَه، ولا يكون مَالِكًا له وهو لا يَمْلِك نفْسَهُ، وهو مملوكٌ، يُبَاعُ ويُوهَبُ ويُورثُ، وكان الله إنما نَقَلَ مِلْكَ الموْتَى إلى الأحياءِ، فملكوا منها ما كان الموْتى مالكِينَ، وإنْ كان العبدُ أبًا أو غيرَه مِمَنْ سُمِّيَتْ له فَريضةٌ، فكان لوْ أُعْطِيَهَا مَلَكَها سيِّدُهُ عليه، لم يكن السيدُ بِأَبِي الميِّتِ ولا وارثاً سُميتْ له فريضةٌ، فَكُنَّا لو أعْطَيْنَا العبدَ بأنه أب، إنما أعْطَيْنَا السيدَ الذي لا فريضةَ له، فَوَرَّثْنَا غيرَ مَن وَرَّثَهُ اللهُ، فلم نُوَرِّثْ عبداً لِمَا وصفتُ، ولا أحداً لم تجتمعْ فيه الحُرِّيَّةُ والإسلامُ والبراءةُ من القتل، حتى لا يكونَ قاتلاً. وذلك أنه رَوَى مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شُعَيْبٍ، أنَّ رسول الله قال: (ليس لقاتل شيء)[أبو داود: كتاب الديات/3955؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/329؛ مالك: كتاب العقول/1365 ] فلم نُوَرِّثْ قاتِلاً ممن قتل، وكان أخفُّ حالِ القاتل عَمْداً أنْ يُمْنَعَ الميراثَ عُقُوبةً، مع تَعَرُّضِ سَخَط اللهِ، أنْ يُمْنَعَ ميراثُ مَنْ عَصَى اللهَ بالقتل. وما وصفتُ، مِنْ ألا يَرِثَ المُسلمَ إلا مسلمُ حرٌّ غيرُ قاتلٌ عَمْداً، مَا لاَ اختلافَ فيه بَيْنَ أحدٍ مِن أهل العلم حفظتُ عنه بِبَلدنا ولا غَيْرِهِ. وفي اجتماعهم على ما وَصَفْنَا مِنْ هذا حجةٌ تَلْزمهم ألا يَتَفَرَّقوا في شيء مِنْ سُنَنِ رسولِ الله، بأنَّ سننَ رسول الله إذا قامتْ هذا المَقام فيما لِلَّهِ فيه فرضٌ منصوص، فدلتْ على أنه على بعضِ من لَزِمَهُ اسمُ ذلك الفرْضِ دون بعض: كانت فيما كان مِثْلَه مِن القُرَآن: هكذا، وكانت فيما سَنَّ النبيُّ فيما ليسَ فيه لله حُكْمٌ منصوص: هكذا. وأوْلَى أنْ لا يَشُكَّ عالمٌ في لزومها، وأنْ يعْلم أنَّ أحكامَ اللهِ ثمَّ أحكامَ رسولِه لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد. قال الله - تبارك وتعالى -: وقال: ونَهَى رسولُ الله عَن بُيُوعٍ تَرَاضَى بِها المُتَبَايِعان، فحُرِّمتْ، مثلُِ الذَّهَبِ بِالذهبِ إلا مِثْلاً بِمِثلٍ، ومثلُِ الذهب بالوَرِق وأحدُهُما نَقْدٌ والآخر نَسِيَّةٌ [ أي نسيئة سُهِّلت وقرأ ورش وأبو جعفر ( فدلتْ السنةُ على أنَّ الله - جل ثناؤه - أرادَ بإحْلالِ البَيْعِ ما لم يُحَرِّمْ مِنْهُ، دون ما حَرَّمَ على لسان نَبِيِّه. ثم كانت لرسول الله فِي بيوعٍ سِوَى هذا سُنَنًا [ تقدم توجيه هذا ونحوه من العربية] مِنْها العبدُ يُباعُ، وقد دلَّسَ البائعُ المُشْتَرِيَ بِعَيْبٍ، فَلِلْمُشترِي ردُّه، وله الخَراجُ بِضَمَانِهِ. ومنها: أنَّ مَن باع عبْداً وله مال، فمالُهُ للبائِعِ إلا أن يشترطه المبتاعُ. ومنها: من باع نَخْلًا قدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُها للبائعِ إلا أن يشترط المبتاع، لَزِمَ الناسَ الأخذُ بِها، بما ألْزَمَهم اللهُ مِن الانتهاءِ إلى أمره. قال الله - تبارك وتعالى -: وقال: وقال لِنَبِيِّهِ: وقال: قال الشافعي: أحكمَ اللهُ فرضَه في كتابِهِ في الصَّلاةِ والزكاةِ والحجِّ، وَبَيَّنَ كيْف فَرَضَهُ على لسان نَبِيِّهِ. فأخْبَرَ رسولُ اللهِ أنَّ عَدَدَ الصلواتِ المفروضاتِ: خَمْسٌ، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الَحَضَرِ: أرْبَعٌ أرْبَعٌ، وعددَ المغرب: ثلاثٌ، وعددَ الصبْح: ركعتان. وسَنَّ فيها كلِّها قِراءةً، وسنَّ أنَّ الَجْهَر مِنها بالقِراءة: في المغرب والعشاء والصبح، وأنَّ المخافتةَ بالقِراءة: في الظهر والعصر. وسَنَّ أنَّ الفرْضَ في الدخول في كلِّ صلاة بِتَكْبِير، والخُروجَ مِنها بتَسْليمٍ، وأنه يُؤْتَى فيها بتكبير، ثم قِراءةٍ، ثم رُكُوعٍ، ثم سَجْدَتَيْن بعد الرُّكوع، وما سِوَى هذا مِنْ حُدُودِها. وسَنَّ في صلاة السفر قَصْرًا، كلَّما كان أرْبَعًا من الصلواتِ، إنْ شاءَ المُسافِرُ، وإثباتَ المَغْرب والصبح على حالها في الحضر. وأنها كلَّها إلى القِبْلَة، مسافراً كان أوْ مُقِيماً، إلا في حالٍ مِن الخَوْفِ واحدةٍ. وسن أنَّ النَّوَافِلَ في مِثْل حالها، لا تَحِلُّ إلاَّ بِطُهُورٍ، ولا تجوز إلا بقِراءة، وما تجوز به المكتوباتُ من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحَضر وفي الأرْض وفي السفر، وأنَّ للرَّاكِب أنْ يصلِيَ في النَّافِلة حيث توجَّهَتْ بِه دابَّتُهُ. أخْبَرَنا ابن أبي فُدَيْكٍ عن ابن أبي ذِئْبٍ عن عثمان بن عبد الله بن سُراقَةَ عن جابر بن عبد الله: ( أنَّ رسولَ اللهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ المَشْرِقِ) [ مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909] أخبرنا مسلم [هو ابن خالد الزنجي.] عن ابن جُرَيْجٍ عن أبي الزبير عن جابر عن النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْناه، لا أدْرِي، أسَمَّى بَنِي أنْمَارٍ أو لا؟ أو قال: (صَلَّى فِي سَفَرٍ). وسنَّ رسولُ الله في صَلاة الأعْيَاد، والاسْتِسْقَاءِ سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسنَّ في صلاة الكسوف، فزاد فيها ركعةً على ركوع الصلوات، فجَعَلَ في كل ركعة ركعتَيْنِ. قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد بن عَمْرَةَ عن عائشة عن النّبِيِّ. وأخبرنا مالك عن هشام عن أبيه، عن عائشة عن النبي. قال: مالكٌ عن زيد بن أسْلَمَ عن عطاء بن يَسَار عن ابن عباس عن النبي مِثْلَه. قال: فَحُكِيَ عن عائشة، وابن عباسٍ في هذه الأحاديث، صلاةُ النبي بِلَفْظٍ مختلفٍ، واجتمع في حديثهما معاً على أنه صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ ركعتين، في كل ركعة ركعتين. وقال الله في الصلاة: فَبَيَّنَ رسولُ الله عَن الله تِلك المَوَاقيتَ، وصلى الصلوات لوقتها، فحُوصرَ يومَ الأحْزابِ، فلم يَقْدر على الصلاة في وقتها، فأخَّرَها للعُذْر، حتى صَلَّى الظهرَ والعصرَ والمغرِبَ والعشاءَ في مَقَامٍ واحِدٍ. أخبرنا محمد بن إسماعيلَ بن أبي فُدَيْكٍ عن ابن أبي ذِئْبٍ عن المَقْبُرِيِّ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، قال: (حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِيٍّ [ بفتح الهاء ويجوز ضمها] مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: قال: فَبَيَّنَ أبو سعيد أنَّ ذلك قَبْل أنْ يُنَزِّلَ اللهُ على النبي الآيةُ التي ذُكرتْ فيها صلاةُ الخوْف. والآيةُ التي ذُكِرَ فيها صَلَاةُ الخوف قوْلُ اللهِ: أخبرنا مالك عن يزيد بن رُومَانَ عن صالح بن خَوَّاتٍ عَنْ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقاَعِ: (أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكعَةَ التَّيِ بَقِيَتْ مِنْ َصَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ) [البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛ النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394.] أخبرني مَنْ سَمِعَ عبدَ الله بن عمر بن حَفْصٍ يَذْكُرُ عن أخيه عُبَيْدِ الله بن عمرَ عن القاسم بن محمد عن صالح بن خَوَّاتٍ عن أبيه خوَّات بن جُبَيْرٍ عن النبي مِثْلَ حديثِ يزيد بن رومان. وفي هذا دلالة على ما وصفتُ قبْلَ هذا في (هذا الكتاب) : مِنْ أن رسول الله إذا سَنَّ سنةً فأحدَثَ اللهُ إليه في تلك السنَّةِ نَسْخَهَا أو مَخْرَجًا إلى سَعَةٍ منها: سنَّ رسولُ الله سنةً تقومُ الحجةُ على الناس بها، حتى يكونوا إنَّمَا صاروا من سُنَّتِهِ إلى سُنَّتِهِ التي بَعْدَهَا. فنَسَخَ اللهُ تأخير الصلاة عَنْ وَقْتِها في الخوف إلى أنْ يُصَلُّوها - كما أنزل الله وسنَّ رسولُه - في وَقْتها، ونسخ رسول اللهُ سنتَه في تأخيرها بِفَرْض الله في كتابه ثم بِسُنته، صَلاها رسول الله في وقتها كما وصفتُ. أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، أُرَاهُ عن النبي، فَذَكَرَ صلاةَ الخوف، فقال: ( إنْ كَانَ خَوْفٌ أشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلِةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا) [ البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/396.] أخبرنا رجلٌ عن ابن أبي ذِئْب عن الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي مِثْلَ مَعْناه، ولم يَشُكَّ أنه عن أبيه، وأنه مَرْفوع إلى النبي. قال: فدلتْ سنةُ رسول الله على ما وصفتُ، مِن أن القِبلة في المكتوبة على فَرْضِها أبَداً، إلا في الموضع الذي لا يُمْكِن فيه الصلاةُ إليها، وذلك عند المُسَابقَةِ والهَرَب وما كان في المعنى الذي لا يُمْكن فيه الصلاة إليها. وثبتت السنة في هذا، ألاَّ تُتْرَكَ الصلاةُ في وَقْتها، كيف ما أمْكَنَتْ المُصَلِّي. قال الله: فقال بعضُ أهل العلم: هي الزكاةُ المفْروضة. قال الله: { فكان مَخْرَجُ الآية عاماً على الأمْوال، وكان يحتمل أن تكون على بعض الأموال دون بعض، فدلتْ السنة على أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض. فلما كان المال أصنافاً، منه الماشِيَةُ، فأخَذَ رسولُ الله مِن الإبل والغَنَم، وأمَر - فيما بَلَغنَا - بالأخْذ من البقر خاصة، دون الماشية سِواها، ثم أخَذ منها بِعَدَدٍ مُخْتلف، كما قَضَى اللهُ على لسان نبيه، وكان للناس ماشيةٌ مِن خَيْل وحُمُر وبِغَال وغيرها، فلَمَّا لم يأخذْ رسولُ الله مِنها شيئاً، وسَنَّ أنْ ليس في الخيل صدقةٌ: استدللنا على أن الصدقة فيما أَخَذَ مِنه وأمر بالأخذ منه، دون غيره. وكان للناس زَرْع وغِراس، فأخَذَ رسولُ الله من النَّخْل والعِنَب الزكاةَ بِخَرْصٍ[ الخَرْصُ: حرز على النخل من الرطب تمراً [مختار الصحاح]] غيرُ مختلفٍ ما أَخَذَ منهما، وأخَذَ منهما مَعًا العُشْرَ إذا سُقِيَا بِسَماء أو عَيْنٍ، ونصْفَ العُشر إذا سُقِيَا بِغَرْبٍ [الغَرْبُ: الدَّلْوُ العظيمة [مختار الصحاح]] وقد أخَذَ بعضُ أهل العلم مِن الزيتون، قياساً على النخل والعنب. ولم يَزَلْ للناس غِراسٌ غيرُ النخل والعنب والزيتون كثيرٌ، مِن الجَوْز واللَّوْز والتين وغيره، فلما لم يأخذ رسول الله منه شيئاً، ولم يأمر بالأخذ منه، استدللنا على أن فرْضَ الله الصدقةَ فيما كان مِن غِراس: في بعضِ الغِرَاس دون بعضٍ. وَزَرَعَ الناسُ الحِنْطَةَ والشعير والذُّرةَ، وأصْنافاً سِواها، فَحَفِظْنا عَن رسول الله الأخْذَ مِن الحِنطة والشعير والذُّرة، وأَخَذَ مَن قَبْلَنَا مِن الدُّخْنِ والسُّلْت والعَلَس والأُرْزِ [الدُّخْنُ: حَبُّ الجَاوَرْسِ [القاموس المحيط]، والجَاوَرْسُ: حب يشبه الذُّرة [النهاية في غريب الحديث]. السُّلْتُ: الشعير، أو ضرب منه، أو الحامض منه [القاموس المحيط] العَلَسُ: ضرب من الحِنْطة، تكون حبتان في قشر، وهو طعام أهل صَنْعاء [مختار الصحاح].] وكُلِّ ما نَبَّتَهُ[ نبَّته: غرسه وزرعه] الناسُ وَجَعَلُوهُ قُوتًا، خُبْزًا وعَصِيدَةً وسَوِيقًا وأُدْمًا، مثل الحِمَّصِ والقَطَاني[ القَطَانِيُّ: جمع قُطْنِيَّة مثلث القاف: حبوب الأرض، أو ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أوهي الحبوب التي تطبخ [القاموس المحيط].]، فهي تصلح خبزاً وسويقاً وأدماً، اتِّباعاً لِمَنْ مَضَى، وقياساً على ما ثَبَتَ أنَّ رسول الله أَخَذَ مِنه الصدقةَ، وكان في معنى ما أخذ النبيُّ، لأن الناس نَبَّتُوه لِيَقْتَاتُوه. وكان للناس نَبَاتٌ غيرُه، فلم يأخذ منه رسولُ الله، ولا مَنْ بَعْدَ رسولِ الله عَلِمْناه، ولم يكن في معنى ما أَخَذَ منه، و ذلك مثل الثُّفَّاءِ والأَسْبيوش والكُسْبرة وحَبِّ العُصْفُر[ الثُّفَّاءُ: الخردل [مختار الصحاح]. الأسبيوش كلمة أعجمية: بزر معروف. الكُسْبرة وفي نسخة الكزبرة.]، وما أشبهه، فلم تكن فيه زكاة: فدلَّ ذلك على أن الزكاة في بعض الزَّرْعِ دون بعض. وفرض رسول الله في الوَرِق[ الوَرِقُ: الدراهم المضروبة [مختار الصحاح - الرازي].] صدقةً، وأَخَذَ المُسْلمون في الذهب بعده صدقةً، إمَّا بخبر عن النبي لمْ يَبْلُغْنا، جص وإما قياساً على أن الذهب والورِق نَقْدُ الناس الذي اكْتَنَزُوه وأجازوه أثْمَاناً على ما تَبَايَعوا به في البلدان قَبْل الإسلام وبعده. وللناس تِبْرٌ[التِّبْرُ: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يُصاغا [القاموس المحيط - فيروزابادي]. وكان الياقوتُ والزبرجدُ أكثرَ ثَمَنًا مِن الذهب والورِق، فلَمَّا لم يأخذ منهما رسول الله، ولم يأمُرْ بالأخذ ولا مَن بَعْدَه عَلِمْناه، وكانا مالَ الخاصَّةِ، وما لا يُقَوَّمُ به على أحد في شيء استهلكه الناسُ، لأنه غيرُ نَقْدٍ، لم يأخذ منهما.] غيرُه، مِن نحُاس وحَدِيد ورَصَاصٍ، فلما لم يأخذ منه رسولُ الله ولا أحدٌ بعده زكاةً، تركناه، اتِّباعاً بِتَرْكه، وأنه لا يجوز أن يقاس بالذهب والوَرِقِ، الَّذَيْنِ هما الثمن عاماً في البلدان على غيرهما، لأنه في غيرِ مَعْناهما، لا زكاةَ فيه، ويَصْلُح أن يُشْتَرَى بالذَّهَب والورِق غيرُهما من التِّبْر إلى أجَلٍ مَعْلوم وبِوَزْن مَعْلُوم. ثم كان ما نَقَلَتْ العامَّةُ عَنْ رسولِ الله في زَكاة الماشية والنَّقْد، أنه أخذها في كلِّ سنةٍ مرةً. وقال الله: وسنَّ في الرِّكَازِ الخُمُسَ، فدَلَّ على أنه يَوْمَ يُوجَدُ، لا في وَقْتٍ غيْرِه. أخبرنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيَّب وأبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَة، أنَّ رسولَ الله قال: (وَفِي الرِّكّازِ الخُمُسُ)[البخاري: كتاب الزكاة/1403؛ مسلم: كتاب الحدود/3226؛ الترمذي: كتاب الزكاة/581؛ النسائي: كتاب الزكاة/2428؛ أبو داود: كتاب اللقطة/1455؛ مالك: كتاب الزكاة/520 ] ولولا دِلالةُ السُّنَّةِ كان ظاهرُ القُرَآن أنَّ الأمْوالَ كلَّها سَوَاءٌ، وأنَّ الزكاةَ في جَمِيعِهَا دون بعْضٍ. وفَرَضَ اللهُ الحجَّ على من يَجد السبيلَ، فَذُكِر عن النبي: أن السبيلَ الزَّادُ والمَرْكَب، وأخْبَرَ رسولُ الله بمَواقيتِ الحج وكيف التَّلْبِيَةُ فيه، وما سَنَّ، وما يَتَّقِي المُحرمُ مِن لُبْسِ الثِّياب والطِّيب، وأعمالِ الحج سِواها، مِن عرفةَ والمزدلفةِ والرَّميِ والحِلاَقِ والطواف، وما سِوى ذلك .فلو أن امْرَأً لم يعْلم لرسول الله سنةً مع كتاب الله إلا ما وصَفْنا، مما سن رسول الله فيه معنى ما أنْزله الله جُمْلةً، وأنه إنما اسْتدرك ما وصفْتُ من فَرْض الله الأعمالَ، وما يُحَرِّم وما يُحِلُّ، ويُدْخَلُ به فيه ويُخْرَجُ منه، ومواقِيتِه، وما سَكَتَ عنه سِوى ذلك من أعماله: قامَتْ الحجَّة عليه بأن سنة رسول الله إذا قامت هذا المقام مع فرضِ الله في كتابه مرَّةً أو أكثرَ، قامتْ كذلك أبداً. واستُدِلَّ أنه لا تُخالِف له سنة أبداً كتابَ الله، وأن سنَّتَه، وإنْ لم يكن فيها نصُّ كتاب: لازِمةٌ، بما وصفتُ من هذا، مع ما ذكرتُ سِواه، مما فَرَضَ اللهُ مِن طاعة رسولِهِ. ووَجَبَ عليه أن يَعْلَمَ أن اللهَ لم يجْعل هذا لخلقٍ غيرِ رسولِه. وأن يجعل قولَ كلِّ أحدٍ وفعْلَه أبَداً تَبعاً لِكِتاب الله ثم سنةِ رسوله. وأن يَعْلمَ أنَّ عالِمًا إن رُوِيَ عنه قولٌ يُخالِف فيه شيْئًا سنَّ فيه رسولُ الله سنةً، لوْ عَلِمَ سنةَ رسولِ الله لمْ يُخالِفْها، وانْتَقَلَ عَنْ قَوْلِهِ إلى سنَّةِ النبي - إنْ شاءَ الله - وإنْ لم يَفْعل كان غيْرَ مُوَسَّعٍ له. فكيف والحُجَجُ في مثل هذا لِلَّهِ قائمَةٌ على خَلْقِه، بما افْتَرَضَ مِن طاعة النبي، وأبانَ مِنْ مَوْضِعِه الذي وَضَعَهُ به مِن وحْيِه ودِينِه وأهْلِ دِينِه. قال الله: فقال بعضُ أهلِ العلم: قد أوْجَبَ اللهُ على المُتَوَفَّى عنْها زوْجُها أربعةَ أشهُرٍ وعشْرًا، وذَكَرَ أن أجَلَ الحامِلِ أن تَضَعَ، فإذا جَمَعَتْ أنْ تكون حامِلا مُتَوَفَّى عنها، أتَتْ بالعِدَّتَيْنِ مَعًا،كما أجدها في كلِّ فرضَيْن جُعِلا عليها أتَتْ بهما معاً. قال: فلَمَّا قال رسولُ اللهِ لِسُبَيْعَة بنْتِ الحرثِ، ووضَعَتْ بعْدَ وَفَاةِ زوْجِها بأيامٍ: ( قَدْ حَلَلْتِ فَتَزَوَّجِي)[ البخاري: كتاب المغازي/3770؛ مسلم: كتاب الطلاق/1484؛ النسائي: كتاب الطلاق/3451؛ أبو داود: كتاب الطلاق/2306؛ أحمد: مسند القبائل/26167 ] ، دلَّ هذا على أنَّ العِدة في الوفاة والعدةَ في الطلاق بالأقراءِ والشُّهور، إنما أرِيد بِهِ مَن لا حَمْلَ به من النساء، وأن الحمْلَ إذا كان فالعِدة سِواه ساقطةٌ. فاحتملت الآية مَعْنَيَيْن: أحدُهما: أنَّ ما سَمَّى اللهُ مِن النِّساء مَحْرَمًا مُحَرَّمٌ، وَما سَكَتَ عنه حَلالٌ بالصَّمْت عنه، وبقول الله: وكان بَيِّناً في الآية تحريمُ الجمْع بمعنىً غيرِ تحريم الأمَّهات، فكان ما سَمَّى حَلالاً حَلالٌ، وما سمى حراماً حرامٌ، وما نهى عن الجمع بَيْنه مِن الأخْتَيْنِ كما نهى عنه. وكان في نهيه عن الجمع بينهما دليلٌ على أنه إنما حرَّم الجمعَ، وأنَّ كلَّ واحدة منهما على الانفراد حلالٌ في الأصْلِ، وما سِواهُنَّ مِن الأُمَّهاتِ والبَنَات والعَمَّات والخالاتِ: مُحَرَّمَاتٌ في الأصل. وكان معنى قوله:
|